نرى أن مقومات الشعر العربي الفصيح أو المُعْرَب كالوزن والقافية وشكل البناء الفني، وما يشاكل ذلك من معانٍ وصور وأخيلة ومشاعر تتوافر في شعر الدوبيت السوداني، وأنه لا اختلاف بينهما إلا في شيءٍ واحد وهو اختلاف شكلي، إذ إن لغة الدوبيت لغة غير مُعْرَبَة، وهذا لا يضيرها كونها لغة شعرية من الطراز الأول، وأن معظم مفرداتها فصيحة بل عريقة في هذه الفصاحة، وأن ما يبدو منها غريباً علينا لا يعدو أن يكون لهجة من اللهجات العربية القديمة، وغنيٌ عن القول إن البيئة التي تخلَّق فيها الشعر المعرب وهي بيئة الجزيرة العربية، تشابه إلى حدٍ كبير بادية السودان التي نبع منها الدوبيت السوداني. وأزعم أن مراحل التطور التي واكبت القصيدة العربية، هي نفسها المراحل التي مر عليها الدوبيت السوداني، وإن كان لا يزال محتفظاً ببنائه الرباعي الغالب وقافيته المتحدة عند كل شطرة، وبنيته الصغيرة التي تعبر عن فكرة معينة أو خاطر عابر، وذلك في غير القصائد والمربوقات والمسادير. وقد لاحظت كما لاحظ غيري من الباحثين، أن كلا الشعرين ولجا ميادين شعرية واحدة، وطرقا أبواباً شعرية واحدة، وأن العوامل والقيم التي مازجت كليهما لا يختلفان، كل ذلك جعل طرق المعاني الواحدة يأتي كثيراً بينهما، وهذا ما يسمى بتوارد الخواطر. والمؤكد أن هذا يتم ويجري بينهما دون أن يعرف ظاهرة السرقات الفنية والأدبية التي برزت في ديوان الفصحى، ولم تبدُ لنا ما بين الشعر المعرب والدوبيت السوداني، وهذا رأيٌ يعززه واقع الحال كالبعد الزماني والمكاني، فكيف يتسنى لشاعر بدوي من أقاصي السودان، أن يطرق معنىً طرقه شاعر جاهلي دون أن تمكنه ثقافته من التعرف على ذلك الشاعر، فضلاً عما قاله من شعر، غير أن يكون هذا مجرد توارد خواطر. وأذكر في هذا الصدد أنني قرأت على الشاعر القومي محمد شريف العباسي أبياتاً من قصيدة للشاعر عمرو بن أبي ربيعة، وعندما وصلت للبيت الذي شبه فيه عمرو مقصودته بدمية الراهب الجميلة التي صورها بجانب المحراب والذي يقول فيه:
دُميةٌ عِندَ رَاهبٍ ذي اجتهادِ صَوَّرُوهَا في جانبِ المحرابِ
أصيب بدهشة عابرة على إثرها قال لي إن هذا المعنى أصبته في مربع أقول فيه مخاطباً جملي التلب:
اللَيل أمسى والخَّ۔بْ الدُقَ۔اقْ مَسَّاكْ نَسي۔تْ الرَقلي ولا البيا مَ۔ا خَسَّاكْ سَ۔وِّي تِزِوِّع اللَقَّحْ نَعامُ۔و عَسَاكْ تَدني بَعيدى مِ۔ن تَصويرةَ النُسَّاكْ ولعلنا نلاحظ أن كلا الشاعرين جعلا من الصور التي يضعها الرهبان أو النساك على جدران المعبد أو على جانب المحراب التي توسم بالجمال، محلاً لتشبيه مقصوديتها. ولا شك أن في ذلك توارد خواطر عجيب.
وتوارد الخواطر الذي نعنيه ما بين الشعر المعرب والدوبيت السوداني، كان محلاً للبحث عند عدد من الباحثين كالشيخ عبد الله عبد الرحمن الضرير في كتابه (العربية في السودان)، والدكتور عبد المجيد عابدين في كتابه (الثقافة العربية في السودان)، والأستاذ عبد الحميد محمد أحمد في كتابه ملامح اللغة العربية في عامية السودان، والشاعر إبراهيم عمر الأمين في كتابه (توارد الخواطر بين الشعر العربي والشعر القومي)، على أن هذا التوارد انتبه إليه في شأن الشعر المعرب قبلهم بقرون عديدة، الشاعر الجاهلي عنترة بن شداد العبسي، عندما قرر أن الشعراء قد يطرقون ذات المعاني، وذلك من خلال ما أورده في صدر بيته الذي ابتدر به معلقته الشهيرة والقائل:
هل غَادَر الشُعراء من مُتَّرَدَمِ أَم هَلْ عَرفْتَ الدارَ بَعدَ تَوَهُمِ
وتوارد الخواطر بين الشعر المعرب والدوبيت السواني يقع كثيراً، وله في كافة أبواب الشعر نماذج عديدة، فعندما أشار شاعر عربي قديم إلى سلوك العرب عند الحروب الذي يأبى المباغتة ويأنف من الإغارة ليلاً في قوله:
دخولُ الفاتحينَ يكونُ صُبحاً ولا تُزجَى مَ۔واكِبَهُم مَسَاءُ
وجدنا ذات الإشارة في مربع شعري لأحد شعرائنا من أهل الدوبيت، مما يدل على وحدة القيم واتساقها وذلك في قوله:
بع۔دَ الغيب۔ه تَّ۔بْ ما بِنسَ۔وِّي الغَ۔ارَه بِنَبداه۔ا بالنه۔ار بي نِحاسنَا والنُقَ۔ارَه مَ۔ا بنزِحْ ورا الحَيطَ۔انْ ولا بِنضَ۔ارَى زَي لِصَ المَعيْ۔ز الباطِ۔لْ أَبْ شُمَ۔ارََه ووحدة السلوك بين القدماء من شعراء أهل الجزيرة العربية والمحدثين من أهل بادية السودان، تبدو أكثر وضوحاً في نصين وقع بينهما توارد خواطر، أحدهما للشاعر أبو فراس الحمداني الذي قال فيه:
إِنا إذا إاشتَدَّ الزم۔انُ ونَ۔ابَ خَطبٌ وادلَهَمْ أَلفيتَ حول بيوتِنا ع۔ددَ الشجاعةَ والك۔رَمْ للقاءِ العِدا بيضُ السيوفِ وللندى حُمرُ النِعَمْ ه۔ذا وه۔ذا دأبنا ي۔ودي دمٌ وي۔راقُ دَّمْ وفي النص لمن نظر إبانة دالة على السلوك عند الحرب والسلوك عند السلام، ففي الحرب يتمسكون بالشجاعة والعزم على قهر العدو، وفي السلم يكرمون الضيف ويحسنون وفادته. وهذا عين ما أشار إليه النص التالي الذي قال به أحد شعرائنا من أهل الدوبيت يقول:
الداي۔رَ الكَ۔رمْ إي۔انا رَاس۔و وسَ۔دْرُو والضي۔فْ البِج۔ينَا نَعِ۔زو نَرفَ۔عْ قَدْرُو خَ۔لواتَ الض۔يوفْ حَيرَانَا ياكلو ويِقْرُو والبِهبِشنَا ب۔يْ سِنيناتُ۔و بيحفر قَ۔برُوا وفي شأن هذه الحماسة تذكرنا خاتمة المربع الشعري القائل:- فُرسَ۔ان دَار جَعل ديل البِفِِش۔و الوَجْعَه والخَ۔اتي البِجيهُم مَ۔ا بِضوقْ الرَجْعَ۔ة قَ۔۔الوا بْه۔ددونَ۔ا يِِسبِب۔ولنَا الفَ۔زْعَه أَبشِ۔ر يا اللَسدْ كان جَ۔اتْ تَكاتلَكْ ضَبعَه ببيت الشاعر جرير الشهير القائل:-
زَعَمَ الفَرزدقُ أَن سَيَقْتُلَ مِربَعاً فابشِر بِطولِ سَلامَةٍ يَا مِربَعُ
والخواطر المتواردة مستمرة ومتزايدة بين الشعر المعرب والدوبيت السوداني، وقد وقعنا حديثاً على معنىً أدركه الشاعر الكبير في موهبته والصغير في سنه الشاب سليمان عجيمي، وهو معنىً سبقة إليه شاعر قديم في بيت شعر يحكي خيبة أمل عميقة وغائرة يقول:
كُنتُ كالمتمني أَن يَرى فَلقاً مِن الصباحِ فَلما أَن رَآهُ عَمِيْ .. !
ويقول عجيمي:-
إِمْتَ۔دَّ البَهي۔مْ مَنَ۔عْ الصَ۔ب۔احْ وشُع۔َاعُ۔۔و لأَنُ۔و مُ۔نايَ ف۔ي نَظ۔رة للتِب۔ر الجَ۔ميل فُقَاعُو قَ۔بلَ الشرقَ۔ه م۔ا اتمتَّعْتَ بالشَتِل البُتَاعْ زُرَاعُو وا أَسف۔اي عَ۔لى بَصَ۔رِي وحَ۔واسِي الضَ۔اعُو ولعل عجمي زاد في المعنى وعمق الخيبة المأساوية عندما أضاف إلى حالة العمى فقد الحواس. وفي الأشعار الحديثة نجد أنواعاً جيدة أفرزها توارد الخواطر بين الدوبيت والشعر المعرب، ونأخذ لذلك مثالاً لما قاله الشاعر البدوي الأسمر الذي أنشأ مربعاً شعرياً يقول فيه:- وَدعتُو الرَزينْ زَرَفَ۔نْ عُيونُو مَدَامِعْ دَافِر صَدرو رُم۔انْ مَطَّعَ۔مْ وط۔الِعْ قُتْ ليها البَرطَمْ المِنْ فَرو بَرقاً شَالِعْ بجيب الغَايب المجروحْ فُؤادو مُوالِعْ وهو مربع يحيل إلينا ذكرى المقطع الشعري الرائع الذي قال به الشاعر الرقيق شفيق الكمالي والقائل:- لا تَقلقي ...
إِنَّا غَداً سَنلتقي ...
لا تقلقي إذا ما مرَّ عامٌ ولم نَلتقِ ...
ففي صَدرِكِ المَرمَري .. رُخامٌ طَري ...
وكوزا نبيذٍ وتِلا زُهورٍ مِن الزئبقِ ...
يَحِنُ لَها خَافِقي ...
فلا تقلقي إذا ما مرَّ عَامٌ ولم نلتَقِ ...
إذن فكلا الشاعرين راهنا على العودة إلى الحبيبة وأكداها لسبب واحد، وهو الجمال الذي لا يستطيعان أن يغيبا عنه طويلاً.
وكانت القصيدة العربية التقليدية تنتهج أشكالاً معينة في ديباجتها مهما كان موضوعها مختلفاً، وأغلب ذلك يكون في النسيب وذكر الأطلال ومنازل الأحبة والوقوف والبكاء عليها، والأمثلة في هذا كثيرة ومتعددة، نأخذ منها قول ط۔رفة بن العبد في مطلع معلقته والتي يقول فيها:-
لخ۔ول۔ةَ أَط۔لالٌ ببرقَ۔ةِ ثَه۔مَد تَلوحُ كَباقي الوَشمِ في ظَاهِر اليَدِ
وقُ۔وفاً بِها صَحبي ع۔ليَّ مَطِيَهُمْ قَ۔الوا لا تَ۔هلَكْ أَسَ۔ىً وتَجَ۔لَدِ
وقول إمرؤ القيس الذي إبتدر به معلقته:-
قِفا نَبكِ مِن ذكرى حبيبٍ ومنزِلِ بسقطِ اللِّوى بين الدَخُولِ فحَومَلِ
فتُوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجتها مِ۔ن جنوبٍ وشمأَلِ
وهذا التقليد لم يغب عن الدوبيت السوداني، وظهر عند بعض قائليه، فها هو شاعرنا أحمد عوض الكريم أبو سن يُحَيي قلع الهماييب حيث كانت تسكن حبيبته آمنة، ويتذكر تلك الأيام التي جمعته وآمنة والهوى وقال:- يا قَلَعْ الهَمَ۔اييبْ لِيك كُ۔ل سَ۔لاَمنَا يا حليلَكْ قِبيلَ وَكتاً سُكونْ نَاس آمنَه لَيكْ عنينَا فَ۔وق القُود عُدال أَيامنَا فِي۔ك صَبَّحنَا دُورْ الحِشْمَتِنْ مِطَامنَه ويقيني أن أهل الدوبيت الذين طرأت في أشعارهم هذه التقاليد الشعرية، طرأت عن ابتكار ذاتي، وإذا ما صادفت المعاني القديمة لا يكون ذلك سوى خواطر متواردة، إذ لم يكن شاعر الدوبيت بحكم ثقافته المؤطرة والمختلفة والمحدودة بحدود باديته، لينظر أبداً للأوائل من قدماء العرب ليقلدهم أو يأخذ منهم، كما فعل أصحاب الشعر المعرب المحدثين الذين قادتهم ثقافتهم للاطلاع على أشعار من سبقوهم، فنظروا إلى قصائدهم وأخذوا منها الديباجة تقليداً، كشاعرنا محمد سعيد العباسي الذي أبدع وهو يقول في مطلع قصيدته بنو أبي:- قِ۔فوا في رُباً كانت تَحلُ بِها سَلمى
فإنِي أَرى هِج۔رانَ تِلكَ الرُب۔ا ظُ۔لمَا أُسائِل رَس۔مَ الدارِ أَي۔ن تَ۔رحلوا
وهَ۔ل أَفصحتْ يوماً لسائِلها العُ۔جمَا على أَن۔ه م۔ا ك۔ادَ يُبقى لمُدنَفٍ
بُك۔اءُ الحَيا الوسمىِّ رَس۔ماً ولا وسمَا مَن۔ازلُ ك۔انت للب۔دور مَن۔ازِلاً
فأَضحَتْ لريمِ الوَحشِ مِن بَعدِها تََسمَى وتوارد الخواطر ما بين الشعر العربي القديم والدوبيت السوداني له أسبابه كما ذكرنا، والتي تتمثل في سببين رئيسيين أولهما تراكيب البناء الفني للشعر عندهما ومقاصده الواحدة، والذي تتركز فيه المشاعر التي تستمد قوتها وأنواعها من التقاليد والقيم البدوية المنسقة والمنسجمة التي تشكل بينهما أحاسيس مشتركة، فتبرز في أحيانٍ متعددة صور المعاني وكأنها واحدة، وثانيهما تشابه البيئة الطبيعية، حيث نجد أن أرض الجزيرة العربية وبادية السودان تحملان ملامح مشتركة، ففيهما تبدو الشموس حارقة والأقمار مضيئة والنجوم دالة والسهول ممتدة، وتمرح في وديانها ومرتفعاتها ومنخفضاتها الظباء والغزلان، وتصهل الخيول وترزم الإبل، وتحلق في سمائها الصقور والطيور المغردة، وغير ذلك مما يشكل التشابه البيئي والطبيعي في كليهما، وقد وجدنا مثالاً جيداً أورده الأستاذ الدكتور أحمد إبراهيم أبو سن في كتابه (تاريخ الشكرية ونماذج من شعر البطانة) نستطيع أن نستنبط منه الدلالة التي توضح علاقة السببية التي تجمع بين الشعر المعرب والدوبيت السوداني المتمثلة في الركن الطبيعي الذي ذكرناه في شأن توارد الخواطر، فقد أورد الدكتور أبو سن مقارنة ما بين شاعرنا الحاردلو والشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى وهما يصفان الصيد في الرحلة والسلوك وغير ذلك بتوارد خواطر يثير الدهشة، حيث أن أول ما يلفت النظر من تشابه في شعرهما هو الإكثار من ذكر المواضع التي ترتادها الظباء، فنجد أن زهيراً ذكر الجواء ويمن والمقادم والحساء وذوهاش وميث عريتنات وذلك في قوله:-
عَفَا مِنْ آلِ فاطِمةَ الجِواءُ فَيُمْ۔نٌ ف۔المق۔ادمُ فالحِس۔اءُ
فذو هَاشٍ فَمِيثُ عُرَيتِنَاتٍ عَفَتْها الري۔حُ بَعْدَكِ والسَم۔اءُ
فَذَرةُ فالجنَابُ ك۔أنَ خُنسَ النِعاجِ الطاوياتِ بِه۔ا المِ۔لاءُ
كما وجدنا أن الحاردلو ذكر المواضع التي يمر بها الصيد كالقليعة أم غرة وود دعول ومقرح الحربة كما سنرى في مربعيه التاليين:- أَبْ عَ۔رَّاقْ فَتَّقْ قَرنو المِبادرْ شَ۔رَّه والبَاشَنْ۔دِي عَمَّ۔تْ مَهشَشَيبْ الدَرَّه مِ۔ن النقره كُ۔لْ حِينْ عِلِيوْ مِنصَرَّه هَ۔ا الأَيامْ مَحاريها القِليعه أُم غُ۔رَّه
******
قَطَعَنْ وَدْدَعُولْ بِج۔رَنْ شَفَاقَه عُدَالْ وخَتَمَنْ مِقْرِحَ الحَربَه الجُبالو طُوَالْ قَلْتْ أُمَ۔ات قُرودْ وَرَدَنُو بيْ القَبَّالْ خِلقَنْ كي۔ف بَرَمولهِنْ دَم۔ير حَبَّالْ وتتضح في الصور الشعرية القادمة لزهير والحاردلو، إدراكهما أن حمار الوحش أو التيس الذي تنعقد له قيادة السرب باعتباره صاحب القوامة على هذه الظباء، بأنه رائد لا يكذب أهله، وهو المدافع عنها وحامي حماها من كل معتد وغادر، لأنه يتقدمها في السير ويحبسها إذا ما استشعر الخطر، حتى ينداح ويتحسس لها في بحث دؤوب مواقع الشراب والكلأ، وفي هذا المعنى يقول زهير بن أبي سلمى:-
فَلَيسَ بِغافِلٍ عَنها مُضَيعٍ رَعِيَتَهُ إذا غَفَل الرِعَاءُ
وليس لِحَاقُه كلِحاقِ إِلفٍ ولا كَنَجَائِها م۔نهُ نجاءُ
وفي هذا المقام يقول الحاردلو:-
خَلاَّهِ۔نْ ع۔لى رِدْ الصِفَ۔يَّه حُ۔بُوسْ ولِقَى في الدَهْسَريبْ قُمبَارْ وعِرقْ فَقُّوسْ فِ۔ي المخَلُوقَه شِنْ تشبَه مَعِيزْ أُمْ رُوسْ غِ۔ير الفِي وَرِِي۔دِنْ شٌولَقِنْ مَرصُوصْ وبعد أن يطمئن التيس على توافر الماء والكلأ، يعود إلى سربه ليقوده إلى المظاعن التي اكتشفها، وهذه الصور شخصها لنا الحاردلو بقوله:- جَاهِنْ مِنزقِفْ وك۔تاً عِصَير وشَفَ۔افْ وكاسِبِ ليلو بيهِنْ مِنْ صَدَفْ ما بخَافْ دَي۔ل الطَبعَهِنْ دَاي۔مَ الأَبَ۔دْ عُ۔يَّافْ وف۔ي ناي۔طَ السُروجْ لِقْيَنْ بِقيِلاً جَافْ ويقول الحاردلو إن التيس القائد عندما يحس بالخطورة يوقف سربه عن السير، ويذهب وحده ليكتشف الطريق، ثم يعود مهرولاً ويتعجل سربه للنهوض والسير
خلفه:-
مِ۔نْ دَعَ۔تْ السَ۔راويلْ قَبَّلنْ دارتَاتْ عَليْ العِشنُوق لِقَنْ زوزايْ وبيْ فَارَّاتْ عَسْكرْ خَ۔افْ عَليهِنْ في ضَرا مَيعَاتْ وجَ۔اهِنْ وعَافَطَنُّو بَعدْ نَه۔ارهِنْ فَاتْ وهذه صورة أعطانا لها زهير من قبل، حيث أوضح لنا أن حمار الوحش يزعج ظباءه ليقودهن، فيرتفع بهن حيناً إلى عوالٍ، وحيناً ينخفض بهن إلى السهوب والفج۔اج حيث يتبين لنا ذلك في قوله:-
تَربَّعْ صَ۔ارةْ حَتى إذا مَ۔ا فَنَى الدَحلان عَنهُ والإضاءُ
تَرفَّ۔ع للقِنَ۔انِ وك۔لِ ف۔جٍ طَبَاهُ الرعيُ منهُ والخَ۔لاءُ
فأَورَدَها حِ۔ياضَ صُنيعَباتٍ فَألفَاهُ۔ن لَيس بِهُ۔ن مَ۔اءُ
فَشَجَّ بِها الأَماعِزَ فهي تَهوِي هُوِيَّ الدَلوِ أَسلَمَها الرِشَاءُ
ونلاحظ أن زهيراً قد شبه الظباء وهي تحط من علٍ كدلو الماء وقد انقطع عنه حبل الرشوة فيسقط سريعاً نحو سطح الماء في البئر، وهو تشبيه وقع عليه الحاردلو، غير أنه ألبسه ثوباً آخر حينما شبه الظباء وهي تنحدر من الأعالي انحداراً شديداً، بأوراق الشجر اليابسة التي تغادر أفرعها هاوية في سرعة نحو الأرض، وذلك في قوله:- دَيلْ الدَيِما مِ۔ن رِدْ الأَنيسْ نَاجعَ۔اتْ وكُل حين فوق عليَونْ نَابي مُنجمعَاتْ متماسِكْ سَدُوهِنْ وبيْ الحُدوبْ شَاتَّاتْ جَاهِ۔نْ وَزاع۔لنُوا وجَ۔نُوا مُنحَتَاتْ وعند الشطرة الأخيرة الفائتة يستمر توارد الخواطر ما بين الحاردلو وزهير، إذ إن الشطرة المشار إليها تحمل ذات المعنى الذي حمله بيت زهير القائل:- وإِن مَالاَ لِوَعثٍ خَاذَمتهُ
بِأل۔واحٍ مَفَاصِلُها ظِم۔اءُ
وختاماً لهذا القول سأشير إلى سمة فنية مشتركة بين الشعر المعرب والدوبيت السوداني، خاصة عندما يتحدثا عن الظباء التي كثيراً ما تأتي في أشعارهما في محل تشبيه للمحبوبة، على أن ذلك يصيبه أحياناً تداخل مدهش حتى لا نكاد نفرق ما بين الظبية والمحبوبة، لتداخل الصور وتمازج المعاني وكثافة الومضات. وعلى كلٍ يعتبر توارد الخواطر ما بين الشعر المعرب والدوبيت السوداني، إشارة مهمة تدلنا إلى وحدة القيم وتشابه البيئتين وطرائق الإبداع والتفكير عند كل من شعراء الجزيرة العربية من أهل القصيدة المعربة، وشعراء البادية السودانية من أهل الدوبيت. ويمكن للمتلقي أن يستزيد ويستلذ في شأن هذا التشابه المذهل بالرجوع للسفر الرائع الذي أنجزه الدكتور العالم الأستاذ إبراهيم القرشي وهو كتابه ( بين الأميرين الشاعرين إمرئ القيس والحاردلو) ( قصة التشابه المذهل).
اسعد العباسي